“رحيل”… مونودراما تصرخ بصوت امرأة واحدة وسط صمت العالم

حنان الصاوي
في عرض أردني جريء ومبهر، جمع بين العزف المنفرد على أوتار الروح وبين تجسيد الألم الأنثوي العميق، أطلت الفنانة نرفانا الخطيب على خشبة المسرح في عمل يحمل كل معاني الكشف والانكشاف، من خلال مسرحية “رحيل”، من تأليف وإخراج إياد الريموني، ضمن مهرجان المونودراما، بإدارة الفنانة عبير عيسى، كجزء من الدورة التاسعة والثلاثين من مهرجان جرش.
“رحيل” ليس عرضًا تقليديًا، بل تجربة نفسية مكثفة تُعرِّي المجتمع من أقنعته، وتُعرِّي امرأة من كل ما كتمته داخلها. العرض اعتمد على سينوغرافيا رمزية ذكية صممها الفنان الأردن الريموني، حيث توزعت تسعة كراسي في ثلاث مجموعات تحاصرها لافتات مثل “شباك تذاكر”، “خروج”، و”محطة انتظار”… بينما تمثال امرأة ترتدي الأبيض يلوح في الخلف كظل لقدرٍ لا يُمحى.
منذ اللحظة الأولى، كسرت نرفانا الخطيب جدار المسرح الرابع، مخاطِبة الجمهور مباشرةً، حاملة حقيبة سفر مليئة بالأسئلة. الشخصية، المهوسة بعلم النفس ونظريات فرويد، تتأمل الحب، وتقسمه إلى إعجاب، هيام، ثم عشق… لكن سرعان ما يتحول هذا التدفق الذهني إلى انفجار درامي، حيث تنبثق من جسدها شخصيات متناقضة، كلها تنزف من ذات الجرح الأنثوي: امرأة تهاجمها أعين نساء القرية، راقصة تبحث عن خلاص، متدينة تلوك الندم، وشاهدة على عنف النساء ضد النساء باسم الشرف أو الغريزة أو الخوف.
بأداء انفعالي مذهل، تجسّد نرفانا كل هذه الأصوات في جسدٍ واحد، وتروي من خلاله سيرة وجعٍ أنثوي موروث، حيث يتحول الحنان إلى عبء، والحب إلى لوم، كما في أحد أكثر المشاهد إيلامًا بين زوج وزوجة تعاني من العقم، ليقول: “الملامة ليست للقدر، الحب هو من يروي عطش رحلتي معك”.
تتصاعد وتيرة العرض مع صوت صفير القطار – رمز الرحيل الحتمي – فنشهد استعراضًا تعبيريًا يُمزّق القيود عن الجسد والروح، وصولًا إلى شخصية شاب لجأ للعرافين ليكتشف أن اللعنة تسكنه هو، لا العالم.
وفي النهاية، يتضح أن التمثال الأبيض لم يكن مجرد عنصر بصري، بل أم البطلة، التي حملت عار حبها من نحات تخلّى عنها، لتلعن القرية ابنتها حتى قبل أن تولد. تختبئ البطلة خلف حقيبتها، تمسك تمثال أمها، وتنتظر قطارًا ربما لا يأتي.
“رحيل” هو تجربة مسرحية نفسية صادمة وجميلة في آن، تكرّس قوة المونودراما في التعبير عن الفرد، وتحمل صوت المرأة وسط ضجيج الصمت الاجتماعي. عرض متكامل، تأليفًا وإخراجًا وأداءً، يثبت مرة أخرى أن المسرح، في يد فنان صادق، قادر على أن يهزّنا من الداخل.