“970/970” صرخة من جوف الوجع السوري..سقط النظام…ورحلة البحث عن الأمل مستمرة

حنان الصاوي
في عرض حمل وجع المعتقلات السورية بكل ما فيها من عبثية وامتهان للإنسان، وقف العرض المسرحي “970/970” ليخترق صمت الذاكرة ويترك نزفها عاريًا أمام الجمهور.
كانت الخشبة مرسومة بشرائط حمراء متقاطعة، تخط حدودًا وهمية، تحاكي حدود وطن حبس خلف جدران الخوف والسكوت والدم، جدران لم تحمل سوى كتابات معتقلين ورسوماتهم، لا كزينة بل كنافذة صغيرة يسرقون منها شهيقا من حرية مفقودة.
من هنا، بدأ حسام الشاه رحلته فوق الخشبة، ممسكا بشخصية “حسان”، المحامي المعتقل، الرجل الذي خسر اسمه وحريته وأمله، ولم يبقَ له سوى رقم 970.
لم يكن صراخه الأول مجرد نداء، بل كان نداء وطن يبحث عن الحياة، “الآنسة أمل هون؟”
صرخة تختصر وجع كل من انتُزع من حضن عائلته، وكل أب خُطفت منه ابنته، وكل سجين لم يعد يعرف إن كان حيًّا أو مجرد رقم يُعدّ في قوائم السجون.
ذكريات حسان، التي جسد ملامحها القاسية زين طيار في دور والده، لم تكن حنينًا بقدر ما كانت سلاسل شدّته إلى تاريخه المجبول بالخوف.
أب يحفر في قلب ابنه الخنوع، ويعلّمه أن يطأطئ رأسه، ليصرخ حسان: “أنا جبان، أنا خائف”.
حتى في أكثر لحظات الحياة اليومية عبثًا، يلتقط النص لحظة فارقة، مشهد من إدلب، رجل يسأل حسان، “معك دولار؟”، فيهرب حسان وكأن الكلمة قنبلة، لأن في سوريا الحديث عن الدولار كان كحديث عن الخيانة!
ثم تأتيه بثينة، محامية النقابة، أدّاها بأسلوب ساخر زين طيار، لتدعوه إلى اجتماع للحملة الانتخابية للرئيس، وهنا، يفتح العرض جرح النفاق الوطني، حين يقف أحد المحامين أيضًا أداها زين طيار، ليقول بوقاحة السلطة، “لا شك أنكم رضعتم من أثداء أمهاتكم محبة الوطن، ومحبة القائد!”
فيجن حسان ويصرخ بجنون،“الله يلعن بزاز أمهاتكم!”، هكذا، يسحب حسان من الحياة إلى الجحيم، إلى السجن، حيث تمحى الأسماء وتولد الأرقام.
في المعتقل، يجرّبه الموت مرات ومرات، جلْد، صعق، إغراق، إذلال، حتى يظهر له سجان، أدّاه أيضًا زين طيار يعامله بلين غريب، وبعد إلحاح حسان، يكشف السجان عن ألم دفين، أخوه معتقل، لا يعرف عنه شيئًا منذ سنوات، يعلق حسان كأنه ينطق بلسان كل السوريين،“سجّان أخوه سجين، وسجين أخوه سجّان”.
لكن العرض لم يكتفي بعرض الألم، بل فتح بوابة العبث حين يقتاد السجان حسان ليلًا، ويطلب منه أن يروي قصة لطفل، طفل لم يعرف العالم، لأنه وُلِد في السجن!
يبدأ حسان الحكاية، “كان في عصفور”، يرد الطفل، “شو يعني عصفور؟”، يهمس حسان، “كان جالس على شجرة”، يرد الطفل،“شو يعني شجرة؟!”، في تلك اللحظة، لا يحتاج المشهد لكلمات، فهول أن يولد طفل في المعتقل ولا يعرف معنى العصفور ولا معنى الشجرة، أعمق من كل خطاب، طفل لم يرى سوى مخالب السجان، وجدران المعتقل.
برؤية إخراجية عميقة لـ زين طيار، وحضور بصري صاغه بسام حميدي، تحت إدارة فنية ودراماتورجية لـ دكتورة لمى طيارة، وتفاصيل فنية دقيقة بتوقيع راكان عضيمي للإنارة، وطارق مجر للمؤثرات الصوتية، وعبدو لوزه للصوت، وخالد عبد العظيم للغرافيك، جاء العرض كلوحة حيّة تفيض أوجاعًا لم تحكى، لكنها معروفة لكل قلب سوري.
وذات لحظة، كأن الزمن توقف، رصاص، تكبير، صرخات، يسقط النظام!، يخرج حسان، لا ليجد حريته فحسب، بل ليبدأ رحلة بحثه المحموم عن أمل، جال بين الوظائف، يسأل كل فتاة عن اسمها، عن مسقط رأسها، ليطرد ويساء فهمه، لم يكن متحرشًا، بل أب يبحث عن ابنته، وعن الأمل!
وحين وقف أمام أحد الشرائط الحمراء، تلك التي شكلت منذ بداية العرض خطوطًا للمنع والخوف، حاول أن يقطعها، فصعقته الكهرباء وثبتته مكانه، رسالة قاسية من الخشبة، القيود في سوريا لم تُكسر، والخطوط الحمراء ما زالت صاعقة قاتلة.
“970/970” لم يكن مجرد عرض مسرحي، بل صرخة حياة، نص حسام الشاه بمشاركة زين طيار، ليكون مسك ختام مهرجان ليالي المسرح الحر الـ 20، حيث عاد ياسمين الشام إلى عمان بعد غياب، يحمل عبق الوطن ووجعه، ليهمس في أذن كل متفرج، لا تتوقفوا عن البحث عن الأمل، فالأمل في الشام، مهما نزف الزمن.