مقالات

فزّاعات: حين يستدعي المسرح ذاكرة الدم الأول

بقلم ولاء محمد

 

منذ أن وطئت البشرية خطيئتها الأولى على الأرض، والقتل ظلّ جرحاً مفتوحاً في الوعي الإنساني. من هذه النقطة السوداء، تنطلق مسرحية «فزّاعات» لتعيد مساءلة المأساة التي بدأت مع قابيل وهابيل. لكن الجديد هنا أن النص لا يكتفي باستدعاء الحكاية الدينية في بعدها التاريخي، بل يوظفها كمنصة فلسفية لطرح سؤال أعمق: كيف يتحول الإنسان، في لحظة بعينها، من كائن حيّ إلى فزّاعة خاوية؟

 

النص كمنظومة أسئلة لا كحكاية

 

المؤلف صالح زمانان لا يقدّم سردية مغلقة؛ بل يفتح فضاءً من التساؤلات. النص مكتوب بلغة شعرية، لكنه لا يغرق في الزينة البلاغية بقدر ما يستخدم الشعر وسيلة للتفكير. حين يتحدث قابيل مثلاً عن كونه “أول فزّاعة لم تخجل من ذعر العصافير”، نحن لا نسمع مجرد اعتراف شخصي، بل نصطدم باستعارة كونية تعكس مأزق الإنسان الحديث: أن يعيش في صورة مهيبة، بينما يتآكله العجز من الداخل.

 

النص لا يحاكم القاتل بقدر ما يحاكم الإنسان ككل. الفزّاعة هنا ليست شخصية ثانوية، بل مرآة وجودية للإنسان الذي يورّث الخطيئة ويعيد إنتاجها جيلاً بعد جيل. وبهذا المعنى، النص يتجاوز قصة قابيل ليصبح سجالاً فلسفياً حول العنف كسمة ملازمة للحضارة الإنسانية.

الإخراج كترجمة بصرية للفلسفة

المخرج صبحي يوسف التقط هذا البعد الفلسفي وحوّله إلى صور مسرحية مكثفة. لم يتعامل مع النص كتعليمات جاهزة، بل بوصفه مادة خام تُعاد صياغتها بصرياً. تكوينات الجسد فوق الخشبة بدت كأنها لوحات حية: الممثلون في لحظات يقتربون من هيئة الفزّاعات، جامدون بأذرع ممدودة، ثم ينفجرون في حركة جماعية تعكس الانفلات من الصمت إلى العنف.

 

يوسف اعتمد على تقابلات الضوء والظلام لإبراز الصراع بين الندم والرغبة، بين الذاكرة والواقع. كل مشهد بدا وكأنه مفصل في رحلة داخل نفس القاتل، لا داخل حكايته فقط. الإخراج هنا لا يخدم النص وحسب، بل يفتح أفقاً إضافياً من المعنى، يجعل العرض أشبه بتجربة فكرية بصرية متكاملة.

السينوغرافيا: حقل تتحول فيه الأرض إلى ذاكرة

السينوغرافيا في «فزّاعات» لم تُستخدم كزينة، بل كجزء من البناء الفلسفي. الألوان القاتمة، الأزياء البسيطة، والفراغ الذي يلف الخشبة، كلها تحيل إلى الفراغ الداخلي الذي يعيشه القاتل. الإضاءة لم تكتف بإبراز الأجساد، بل صنعت طبقات من الظلال جعلت الشخصيات تبدو أحياناً أشباحاً أكثر من كونها بشراً، في إشارة إلى أن القتل لا يميت المقتول وحده بل يترك القاتل نفسه ظلاً بلا جوهر.

 

الموسيقى التي وضعها حازم شاهين كانت بمثابة صوت داخلي للنص: نغمات تتأرجح بين الهدوء المشوب بالحزن والانفجارات المفاجئة، وكأنها تجسّد التوتر الأبدي بين الذنب والرغبة في الغفران.

 

 

 

الأداء: بين الرمزي والإنساني

 

الممثلون واجهوا تحدياً صعباً: كيف يجسّدون شخصيات ليست مجرد أفراد بل رموز وجودية؟ وقد نجحوا في ذلك من خلال لغة جسدية واعية، ابتعدت عن الانفعال السهل واقتربت من التعبير الرمزي. كل حركة بدت محسوبة، وكأن الجسد نفسه صار نصاً موازياً. ومع ذلك لم يفقد الأداء دفئه الإنساني، بل ظل قادراً على لمس المتلقي، لا بالعاطفة فقط بل بالعقل أيضاً.

رسالة العرض: الفن في مواجهة ثقافة الدم

أهم ما يميز «فزّاعات» أنه لم يسقط في فخ المباشرة الأخلاقية. النص يذكّرنا بالآيات القرآنية والأحاديث التي حملت وزر القتل لقابيل، لكنه يفعل ذلك في سياق جمالي وفلسفي، لا دعوي مباشر. العرض يتركنا أمام سؤال كبير: إذا كان القتل هو الخطيئة الأولى، فكيف نعيش اليوم في عالم يضاعفها كل لحظة؟

بهذا المعنى، «فزّاعات» ليس مجرد عمل مسرحي عن الماضي، بل عن حاضرنا المليء بالدماء، حيث تتحول الحضارة إلى وهم، ويصبح الإنسان، كما في النص، مجرد فزّاعة تستعرض قوتها بينما تبتلعها هشاشتها الداخلية.

في النهاية، يتكامل تأليف صالح زمانان وإخراج صبحي يوسف ليقدّما تجربة مسرحية لا تُشاهد بعين واحدة بل بعقل وقلب معاً. النص يسائل جذور العنف الإنساني، والإخراج يمنحه جسداً بصرياً يضاعف من أثره. النتيجة عمل يذكرنا أن المسرح، حين يتحالف فيه النص مع الرؤية الإخراجية، يستطيع أن يكون أكثر من فن: أن يكون مرآة كاشفة لذواتنا، وأن يوقظ السؤال الأبدي الذي بدأ منذ قابيل ولم ينتهِ بعد: كيف يواجه الإنسان ظله؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى